قول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر]. أي: أن المشيئتين تعارضتا، ويلزمهم أن مشيئة العبد غلبت مشيئة الله -والعياذ بالله- وَقَالُوا: لأن الله تَعَالَى لم يشأ الكفر، لكن العبد فعل ما لم يشأه ربه، فوقع في الكفر هذا موجز الشبهة. [فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه]، هذا أصل الشبهة، وأصل السؤال أنه قيل: آلله شاء الكفر من الكفار، وشاء المعصية من العاصي؟ قيل لهم: نعم قالوا: كيف يشاؤه ثُمَّ يعذبهم عليه، أليس هذا ظلماً؟! وهذا هو السؤال الذي سأله عمران بن حصين لـأبي الأسود الدؤلي؛ لكن هَؤُلاءِ القوم لم يأخذوا الجواب من الصحابة، وإنما أخذوه -كما أسلفنا- من فلاسفة اليهود والنَّصَارَى والصابئين فَقَالُوا: إذاً لا مخرج من هذا إلا أن نقول: أن الله يتنزه عن الظلم، ولهذا نقول: إن الله لم يشأ الكفر ولم يشأ المعاصي، وإنما وقعت بمحض مشيئة العبد. ولما قال غيلان ذلك في زمن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- جَاءَ به. وسأله عن العلم، قال: يا غيلان: أتؤمن أن الله عَلِمَ وكَتَب أفعال العباد خيرها وشرها؟ قَالَ: نعم، فقَالَ: أنت محجوج ولو جحدت لكفرت.
ولهذا أفضى القول بغلاتهم إِلَى إنكار العلم، فَقَالُوا: إن الله لم يعلم ذلك ولم يكتبه، وأن الأمر أُنف. والذين أنكروا العلم كفار، أفتى بذلك الإمام مالك والشَّافِعِيّ وأَحْمَد وغيرهم تبعاً لفتوى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؛ لأن صريح القُرْآن دال عَلَى كفرهم، ومعلوم من الدين بالضرورة عند الْمُسْلِمِينَ عامتهم وخاصتهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون، فمن أنكر علم الله بمعاصي العباد وبكفرهم، وأنه لا يعلم بها إلا بعد أن يفعلوها فهو كافر
.
إذاً: هذا القول هو قول غلاة القدرية، أما غير الغلاة: فأنكروا المرتبة الأخيرة وهي: أن الله تَعَالَى خلق أفعال العباد من الشر، وَقَالُوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الكفر أو الفجور أو الخمر أو الزنى في العباد؟ فظنوا أنهم بذلك ينزهون الله تَعَالَى عن الظلم وعن الشر، ولهذا يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه؛ ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه] هربوا من نسبة مشيئة الشر إِلَى الله، ووقعوا في القول بأن مشيئة العبد غلبت مشيئة الرب، والغلاة وقعوا في شر من ذلك وهو أنهم أرادوا أن ينزهوا الله عن الظلم، وينزهوا الله عن نسبة الشر إليه ووقعوا في أقبح من ذلك وهو القول بأنه يجهل ذلك -تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيرا- هذا أضل وأخبث مما فروا منه، وَقَالُوا: إن الله لم يشأ من الكافر إلا الإيمان، ولكن الكافر خرج عن مشيئة الله وفعل الكفر.
إذاً هم بهذه الحالة يجعلون المشيئة هي الرضى والشرع. نعم إن الله تَعَالَى لم يرض ولن يرض من الكافر ولا من أحد من الخلق إلا الإيمان ولم يشرع الله للخلق إلا الإيمان، لكن رضاه وشرعه شيء، ومشيئته شيء آخر. وهم لم يفرقوا بينهما فيقولون: [فإن الله قد شاء الإيمان منه] عَلَى قولهم [والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه] أي: ليس لديهم دليل من النصوص وإنما هو قول مخالف للدليل
، وهذه الشبهة وقعت عندهم بقصد أنهم يعظمون الله ويجلونه، ولغرض آخر وهو: أنهم قالوا: لا نفتح المجال لأهل المعاصي أن يحتجوا ويعتذروا بالقدر، وهذا يدل عَلَى ما أشرنا إليه -سابقاً- ونعيد الإشارة إليه وهو أننا لا نحكم عَلَى الأمور بمجرد مقاصد أصحابها.
لا نقول فلان قصده طيب إذاً كلامه حق؛ بل يقَالَ: إن فلاناً قصده طيب ونيته حسنة ولكن كلامه باطل، فلا يعني صدق النية أحقية القول، فإن عمرو بن عبيد مثلاً كَانَ من العباد الزهاد ومعبد كَانَ فيه عبادة وعلم ولكن لما قالوا: ننزه الله ولا ننسب إليه الشر ولا الظلم ولا نفتح الباب للعصاة والمجرمين، فيذنبون ويجرمون ويقولون هذا بقدر الله، وإن كَانَ قولهم لحسن النية فقد يكون الإِنسَان عَلَى نية حسنة ولكن يكون فعله مردوداً، ولهذا لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} لم يجعل عليه شرطاً أن تكون نيته سيئة أو قصده بهذا أن يهدم الدين
.